فصل: تفسير الآية رقم (5):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (4):

{كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)}
أي: كتب الله على هذا الشيطان المريد، وحكم عليه حُكماً ظاهراً، هكذا(عيني عينك) كما يقال {أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ...} [الحج: 4] أي: تابعه وسار خلفه {فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إلى عَذَابِ السعير} [الحج: 4] يضله ويهديه ضِدّان، فكيف نجمع بينهما؟
المراد: يُضِلُّه عن طريق الحق والخير، ويهديه أي: للشر؛ لأن معنى الهداية: الدلالة مُطْلقاً، فإن دللْتَ على خير فهي هداية، وإن دللتَ على شر فهي أيضاً هداية.
واقرأ قوله سبحانه وتعالى: {احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله فاهدوهم إلى صِرَاطِ الجحيم} [الصافات: 22- 23].
أي: دُلُّوهم وخُذوا بأيديهم إلى جهنم.
ويقول تعالى في آية أخرى: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ..} [النساء: 168- 169].
والسَّعير: هي النار المتوهّجة التي لا تخمد ولا تنطفئ.
ثم يقول الحق سبحانه: {ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ البعث فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ..}.

.تفسير الآية رقم (5):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)}
قوله: {ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ البعث..} [الحج: 5].
الريب: الشك. فالمعنى: إنْ كنتم شاكِّين في مسألة البعث، فإليكم الدليل على صِدْقه {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ..} [الحج: 5] أي: الخَلْق الأول، وهو آدم عليه السلام، أما جمهرة الناس بعد آدم فخُلِقوا من(نطفة) حية من إنسان حي.
والمتتبع لآيات القرآن يجد الحق سبحانه وتعالى يقول مرة في خَلْق الإنسان: {مِّن تُرَابٍ..} [الحج: 5]، ومرة {مِن مَّآءٍ..} [الطارق: 6]، و{مِّن طِينٍ..} [الأنعام: 2]، و{مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ..} [الحجر: 26]، و{مِن صَلْصَالٍ كالفخار..} [الرحمن: 14] وهذه التي دعتْ المستشرقين إلى الاعتراض على أسلوب القرآن، يقولون: من أيِّ هذه الأشياء خُلِقْتم؟
وهذا الاعتراض ناشيء من عدم فَهْم لغة القرآن، فالتراب والماء والطين والحمأ والمسنون والصلصال، كلها مراحل متعددة للشيء الواحد، فإذا وضعتَ الماء على التراب صار طيناً، فإنْ تركتَ الطين حتى يتخمّر، ويتداخل بعضه في بعض حتى لا تستطيع أنْ تُميِّز عنصراً فيه عن الآخر. وهذا عندما يعطَنُ وتتغير رائحته يكون هو الحمأ المسنون، فإنْ جَفَّ فهو صلصال كالفخار، ومنه خلق اللهُ الإنسان وصوَّره، ونفخ فيه من روحه، إذن: هذه مراحل للشيء الواحد، ومرور الشيء بمراحل مختلفة لا يُغيِّره.
ثم تكلم سبحانه عن الخَلْق الثاني بعد آدم عليه السلام، وهم ذريته، فقال: {مِن نُّطْفَةٍ..} [الحج: 5] والنطفة في الأصل هي قطرة الماء العَذْب، كما جاء في قول الشاعر:
بَقَايَا نِطَافٍ أودَعَ الغيمُ صَفْوَهَا ** مُثقَّلَةُ الأرجَاء زُرْقُ الجَوانبِ

ولا تظهر زُرْقة الماء إلا إذا كان صافياً لا يشوبه شيء، وكذلك النطفة هي خلاصة الخلاصة، لأن جسم الإنسان تحدث فيه عملية الاحتراق، وعملية الأيض أي: الهدم والبناء بصفة مستمرة ينتج عنها خروج الفضلات المختلفة من الجسم: فالبول، والغائط، والعرق، والدموع، وصَمْغ الأذن، كلها فضلات ناتجة عن احتراق الطعام بداخل الجسم حيث يمتص الجسم خلاصة الغذاء، وينقلها إلى الدم.
ومن هذه الخلاصة يُستخلص منيُّ الإنسان الذي تؤخذ منه النطفة، فهو- إذن- خلاصة الخلاصة في الإنسان، ومنه يحدث الحمل، ويتكَّون الجنين، وكأن الخالق- عز وجل- قد صَفَّاها هذه التصفية ونقَّاها كل هذا النقاء؛ لأنها ستكون أصْلاً لأكرم مخلوقاته، وهو الإنسان.
وهذه النطفة لا تنزل من الإنسان إلا في عملية الجماع، وهي ألذُّ متعة في وجود الإنسان الحيِّ، لماذا؟ لو تأملتَ متعة الإنسان ولذاته الأخرى مثل: لذة الذَّوْق، أو الشم، أو الملمس، فهي لذَّاتٌ معروفة محددة بحاسَّة معينة من حواس الإنسان، أمّا هذه اللذة المصاحبة لنزول المنيِّ أثناء هذه العملية الجنسية فهي لذة شاملة يهتز لها الجسم كله، ولا تستطيع أنْ تُحدِّد فيها منطقة الإحساس، بل كل ذرة من ذرات الجسم تحسها.
لذلك أمرنا ربنا- عز وجل- أن نغتسل بعد هذه العملية؛ لأنها شغلتْ كل ذرة من ذرات تكوينك، وربما- عند العارفين بالله- لا تغفل عن الله تعالى إلا في هذه اللحظة؛ لذلك كان الأمر بالاغتسال بعدها، هو قول العلماء.
أما أهل المعرفة عن الله وأهل الشطح وأهل الفيوضات فيقولون: إن الله خلق آدم من طين، وجعل نَسْله من هذه النطفة الحية التي وضعها في حواء، ثم أتى منها كل الخَلْق بعده، فكأن في كل واحد منا ذرة من أبيه آدم؛ لأنه لو طرأ على هذه الذرة موت ما كان نَسْلٌ بعد آدم، فهذه الذرة موجودة فيك في النطفة التي تلقيها ويأتي منها ولدك، وهي أصْفى شيء فيك؛ لأنها الذرة التي شهدتْ الخَلْق الأول خَلْق أبيك آدم عليه السلام.
وقد قرّبنا هذه المسألة وقلنا: لو أنك أخذت سنتيمتراً من مادة ملونة، ووضعته في قارورة ماء، ثم أخذتَ ترجُّ القارورة حتى اختلط الماء بالمادة الملونة فإن كل قطرة من الماء بها ذرة من هذه المادة، وهكذا لو ألقيتَ القارورة في برميل.. إلخ.
إذن: فكل إنسان مِنّا فيه ذرة من أبيه آدم عليه السلام، هذه الذرة شهدتْ خَلْق آدم، وشهدتْ العهد الأول الذي أخذه الله على عباده في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بني ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ..} [الأعراف: 172].
لذلك؛ يُسمِّي الله تعالى إرسال الرسل بَعْثاً فيقول: {بَعَثَ الله رَسُولاً} [الفرقان: 41] بعثه: كأنه كان موجوداً وله أَصْل في رسالة مباشرة من الله حين أخذ العهد على عبادة، وهم في ظَهْر آدم عليه السلام، كما يخاطب الرسول بقوله: {فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية: 21] أي: مُذكِّر بالعهد القديم الذي أخذناه على أنفسنا.
لذلك اقرأ الآية: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بني ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ..} [الأعراف: 172].
هذا في مرحلة الذِّرِّ قبل أنْ يأتي الهوى في النفوس {أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ أَوْ تقولوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المبطلون} [الأعراف: 172- 173].
إذن: بعث الله الرسل لتُذكِّر بالعهد الأول، حتى لا تحدث الغفلة، وحتى تقيم على الناس الحجة.
ثم يقول تعالى: {ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ..} [الحج: 5] سمِّيت النطفة علقة؛ لأنها تعلَقُ بالرحم، يقول تعالى في آية أخرى: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يمنى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فسوى} [القيامة: 37- 38].
فالمنيُّ هو السائل الذي يحمل النطفة، وهي الخلاصة التي يتكوَّن منها الجنين، والعَلَقة هنا هي البُويْضَة المخصَّبة، فبعد أنْ كان للبويضة تعلُّق بالأم، وللحيوان المنوي(النطفة) تعلُّق بالأب، اجتمعا في تعلُّق جديد والتقيَا ليتشبَّثا بجدار الرحم، وكأن فيها ذاتية تجعلها تعلَق بنفسها، يُسمُّونها(زيجوت).
ومنها قولهم: فلان هذا مثل العلقة إذ كان ملازماً لك.
بعد ذلك تتحول العلقة إلى مضغة {ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ..} [الحج: 5] والمضغة: هي قطعة لحم صغيرة قَدْر ما يُمضغ من الطعام، وهو خليط من عِدَّة أشياء، كما لو أكلتَ مثلاً قطعة لحم مع ملعقة خضار مع ملعقة أرز، وبالمضغ يتحوّل هذا إلى خليط، ذلك لأن جسم الإنسان لا يتكَّون من عنصر واحد، بل من ستة عشر عنصراً.
هذه المضغة {مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ..} [الحج: 5] معنى مخلقة يعني: يظهر عليها هيكل الجسم، وتتشكَّل على صورته، فهذه للرأس، وهذه للذراع، وهذه للرِّجْل وهكذا، يعني تخلَّقتْ على هيئة الأنسان.
أما غير المخلَّقة، فقد عرفنا مؤخراً أنها الخلايا التي تُعوِّض الجسم وتُرقِّعه إذا أصابه عَطَب فهي بمثابة(احتياطي) لإعادة تركيب ما تلف من أنسجة الجسم وترميمها، كما يحدث مثلاً في حالة الجُرْح فإنْ تركتَه لطبيعة الجسم يندمل شيئاً فشيئاً، دون أنْ يتركَ أثراً.
نرى هذا في أولاد الفلاحين، حين يُجرح الواحد منهم، أو تظهر عنده بعض الدمامل، فيتركونها لمقاومة الجسم الطبيعية، وبعد فترة تتلاشى هذه الدمامل دون أنْ تتركَ أثراً على الإطلاق؛ لأنهم تركوا الجسم للصيدلية الربانية.
أما إذا تدخَّلنا في الجُرْح بمواد كيماوية إو خياطة أو خلافه فلابد أن يترك أثراً، فترى مكانه لامعاً؛ لأن هذه المواد أتلفت مسام الجسم؛ لذلك نجد مثل هذه الأماكن من الجسم قد تغيرتْ، ويميل الإنسان إلى حَكِّها(وهرشها)؛ لأن هذه المسام كانت تُخرِج بعض فضلات الجسم على هيئة عرق، فلما انسدت هذه المسام سببت هذه الظاهرة. هذا كله لأننا تدخَّلْنا في الطبيعة التي خلقها الله.
إذن: فمعنى {وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ..} [الحج: 5] هي الصيدلية التي تُعوِّض وتُعيد بناء ما تلف من جسم الإنسان.
ثم يقول سبحانه: {لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرحام مَا نَشَآءُ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى..} [الحج: 5] أي: نُوضِّح لكم كل ما يتعلَّق بهذه المسألة {وَنُقِرُّ فِي الأرحام مَا نَشَآءُ..} [الحج: 5] وهي المضْغة التي قُدِّر لها أنْ تكون جنيناً يكتمل إلى أنْ يولد؛ لذلك قال: {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى..} [الحج: 5] أو نسقطه ميتاً قبل ولادته.
فإنْ قلتَ: وما الحكمة من خَلْقه وتصويره، إنْ كان قد قُدِّر له أنْ يموت جنيناً؟ نقول: لنعرف أن الموت أمر مُطْلق لا رابطَ له ولا سِنّ، فالموت يكون للشيخ كما يكون للجنين في بطن أمه، ففي أيِّ وقت ينتهي الأجل.
وقوله تعالى: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً..} [الحج: 5] قال: {نُخْرِجُكُمْ..} [الحج: 5] بصيغة الجمع ولم يقُلْ: أطفالاً إنما {طِفْلاً..} [الحج: 5] بصيغة المفرد، لماذا؟ قالوا: في اللغة ألفاظ يستوي فيها المفرد والجمع، فطفل هنا بمعنى أطفال، وقد وردتْ أطفال في موضع آخر في قوله سبحانه: {وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم..} [النور: 59].
وكما تقول هذا رجل عَدْل، ورجال عَدْل. وفي قصة سيدنا إبراهيم- عليه السلام- يتكلم عن الأصنام فيقول: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي..} [الشعراء: 77] ولم يقُلْ: أعداء. وحينما تكلم عن ضَيْفه قال: {هَؤُلآءِ ضَيْفِي..} [الحجر: 68] ولم يقل: ضيوفي، إذن: المفرد هنا يُؤدِّي معنى الجمع.
ثم يقول سبحانه: {ثُمَّ لتبلغوا أَشُدَّكُمْ..} [الحج: 5] وهكذا، وسبق أنْ تحدَّثنا عن مراحل عمر الإنسان، وأنه يمر بمرحلة الرُّشْد: رُشْد البنية حين يصبح قادراً على إنجاب مثله، ورُشْد العقل حين يصبح قادراً على التصرّف السليم، ويُحسن الاختيار بين البدائل.
ثم تأتي مرحلة الأشد: {حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ..} [الأحقاف: 15] يعني: نضج نُضْجاً من حوادث الحياة أيضاً.
ثم يقول تعالى: {وَمِنكُمْ مَّن يتوفى وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر..} [الحج: 5] وأرذل العمر يعني رديئه، حين تظهر على الإنسان علامات الخَوَر والضعف {لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً..} [الحج: 5] لأنه ينسى، وعندها يعرف أن صحته وقوته وسلطانه ليست ذاتية فيه، إنما موهوبة له من الله.
وإذا بلغ الرجل أرذلَ العمر يعود من جديد إلى مرحلة الطفولة تدريجياً، فيحتاج لمَنْ يأخذ بيده ليقوم أو ليمشي، كما تأخذ بيد الطفل الصغير، فإذا تكلّم يتهته ويتلعثم كالطفل الذي يتعلم الكلام.. وهكذا في جميع شئونه.
لذلك يقولون: الزواج المبكر أقرب طريق لإنجاب(والد) يعولُك في طفولة شيخوختك، ولم يقُلْ: ولداً؛ لأنه سيقوم معك فيما بعد بدوْر الوالد، يقولون: لحق والده يعني سنُّهما متقارب.
لكن، لماذا يُرَدُّ بعضنا إلى أرذل العمر دون بعض؟ الحق سبحانه جعلها نماذج حتى لا نقول: يا ليت أعمارنا تطول؛ لأن أعمار الجميع لو طالتْ إلى أرذَلِ العمر لأصبح الأمر صعباً علينا، فمن رحمة الله بنا أنْ خلق الموت.
ثم يقول تعالى: {وَتَرَى الأرض هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5].
أي: كما كان خَلْق الإنسان من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مُضْغة مُخلَّقة وغير مُخلَّقة، ثم أخرجه طفلاً، وبلغ أَشُدَّهُ، ومنهم مَنْ مات، ومنهم مَنْ يُرَدُّ إلى أرذَل العمر، كذلك الحال في الأرض: {وَتَرَى الأرض هَامِدَةً..} [الحج: 5].
هامدة: ساكنة، ومنه قولنا للولد كثيرالحركة: اهمد {فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت..} [الحج: 5] أي: تحركتْ ذراتُها بالنبات بعد سكونها.
والاهتزاز: تحرُّك ما كنت تظنه ثابتاً، وليس ما كان ثابتاً في الواقع؛ لأن لكل كائن حركة في ذاته، حتى قطعة الحديد الجامدة لها حركة بين ذراتها، لكن ليس لديْك من وسائل الإدراك ما تدرك به هذه الحركة. ولو تأملت المغناطيس لأدركتَ هذه الحركة بين ذراته، فحين تُدلِّك القضيب الممغنط وتُمرِّره على قضيب آخر غير مُمغنط في اتجاه واحد، فإنه يكتسب منه المغناطيسية، وتمرير المغناطيس في اتجاه واحد معناه تعديل للذرات لتحمل شحنة واحدة سالبة أو موجبة، فإن اختلف اتجاه الدَّلْك فإن الذرات أيضاً تختلف.
إذن: في الحديد- رمز الصلابة والجمود- حركة وحياة تناسبه، وإنْ خُيِّل إليك أنه أصمُّ جامد في ظاهرة.
لذلك نقول {هَامِدَةً..} [الحج: 5] يعني: ساكنة في رَأْي العلم، حيث لا نباتَ فيها ثم {اهتزت..} [الحج: 5] يعني: زادتْ ورَبَتْ وتحركتْ لإخراج النبات، إنما هي في الحقيقة لم تكُنْ ساكنة مُطْلقاً؛ لأن فيها حركة ذاتية بين ذراتها.
ومعنى: {وَرَبَتْ..} [الحج: 5] أي: زادت عن حجمها، كما تزيد حبة الفول مثلاً حين تُوضَع في الماء، وتأخذ حظها من الرطوبة، وكذلك في جميع البقول، وهذه الزيادة في حجم الحبة هي التي تفلقها إلى فلقتين في عملية الإنبات، ويخرج منها زبان يتجه إلى أعلى فيكون الساق الذي يبحث عن الهواء، وإلى أسفل فيكون الجذر الذي يبحث عن الماء. وتظل هاتان الفلقتان مصدرَ غذاءٍ للنبتة حتى تقوى، وتستطيع أنْ تمتصَّ غذاءها من التربة، فإذا أدَّتْ هاتان الفلقتان مهمتهما في تغذية النبتة تحوَّلتَا إلى ورقتين، وهما أول ورقتين في تكوين النبتة.
كذلك، نلاحظ في تغذية النبات أنه لا يأخذ كُلَّ غذائه من التربة، إنما يتغذى بنسبة ربما 90 بالمائة من غذائه من الهواء، وتستطيع أن تلاحظ هذه الظاهرة إذا نظرتَ إلى إصيص به زرع، فسوف تجد ما نقص من التربة كمية لا تُذكَر بالنسبة لحجم النبات الذي خرج منها.
وحين تتأمل جذر النبات تجد فيه آية من آيات الله، فالجذر يمتد إلى أن يصل إلى الرطوبة أو الماء، حتى إذا وصل إلى مصدر غذائه توقَّف، ولك أن تنظر مثلاً إلى(كوز الحلبة) فسوف تجد الجذور غير متساوية في الطول، بحسب بُعد الحبة عن مصدر الرطوبة.
{وَرَبَتْ..} [الحج: 5] أي: زادت وانتفشتْ، كما يحدث في العجين حين تضع فيه الخميرة {وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5].
هذه صورة حيَّة واقعية نلاحظها جميعاً عياناً: الأرض تكون جرداء ساكنة، لا حركةَ فيها، فإذا ما نزل عليها الماء تغيرتْ وتحركتْ ذراتها وتشققتْ عن النبات، ولو حتى بالمطر الصناعي، كما نرى في عرفة مثلاً ينزل عليها المطر الصناعي فيخضرُّ الوادي، لكن حينما ينقطع الماء يعود كما كان لعدم موالاة الماء، ولو واليتَ عليها بالماء لصارت غابات وأحراشاً وبساتين كالتي نراها في أوروبا.
والمطر لا يحتاج أنْ تُسوَّى له الأرض؛ لأنه يسْقِي المرتفع والمنخفض على السواء، على خلاف الأرض التي تسقيها أنت لابد أن تُسوِّيها للماء حتى يصل إليها جميعاً.
فإذا أنزل الله تعالى المطر على الأرض الجدباء الجرداء تراها تتفتق بالنبات، فمن أين جاءت هذه البذور؟ وكيف لم يُصِبْها العطب، وهي في الأرض طوال هذه الفترات؟ الأرض هي التي تحفظها من العطب إلى أن تجد البيئة المناسبة للإنبات، وهذا النبات الذي يخرج من الأرض دون تدخُّل الإنسان يسمونه(عِذْى).
أما عن نَقْل هذه البذور في الصحراء وفي الوديان، فهي تنتقل بواسطة الريح، أو في رَوَث الحيوانات.
ومعنى: {مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5] الزوج: البعض يظن الزوج يعني الاثنين، إنما الزوج كلمة مفردة تدل على واحد مفرد معه مِثْله من جنسه، ففي قوله تعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزوجين الذكر والأنثى} [النجم: 45] فكل منهما زوج، وكما نقول: زوج أحذية يعني فردة حذاء معها فردة أخرى مثلها، ومثلها كلمة توأم يعني مولود معه مثله فكل واحد منهما يسمى(توأم) وهما معاً(توأمان) ولا نقول: هما توأم.
وهنا مظهر من مظاهر دِقَّة الأداء القرآني: {كُلِّ زَوْجٍ..} [الحج: 5] لأن كل المخلوقات، سواء أكانت جماداً أو نباتاً أو حيواناً، لابد فيه من ذكر وأنثى، هذه الزوجية قال الله فيها: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ..} [الذاريات: 49] حتى في الجماد الذي نظنه جماداً لا حركةَ فيه، يتكَّون من زوجين: سالب وموجب في الكهرباء، وفي الذرة، وفي المغناطيس، فكلُّ شيء يعطي أعلى منه، فلابد فيه من زوجيْن.
لذلك، فالحق سبحانه وتعالى حينما عالج هذه المسألة عالجها برصيد احتياطي في القرآن، يقول سبحانه: {سُبْحَانَ الذي خَلَق الأزواج كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأرض وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ} [يس: 36].
فقوله سبحانه: {وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ} [يس: 36] رصيد عالٍ لما سيأتي به العلم من اكتشافات تثبت صِدْق القرآن على مَرِّ الأيام، ففي الماضي عرفنا الكهرباء، وأنها سالب وموجب فقلنا: هذه مما لا نعلم، وفي الماضي القريب عرفنا الذرة فقلنا: هذه مما لا نعلم، وفي الماضي القريب عرفنا الذرة فقلنا: هذه مما لا نعلم، وهذا وجه من وجوه الإعجاز في القرآن الكريم.
إذن: خُذْها قضية عامة: كل شيء يتكاثر إلى أعلى منه، فلابد ان فيه زوجية.
فقوله تعالى: {وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5] فالزوج من النبات مفرد معه مثله، وهذا واضح في لقاح الذكر والأنثى، هذا اللقاح قد يكون في الذكر وحده، أو في الأنثى وحدها كما في النخل مثلاً، وقد يكون العنصران معاً في النبات الواحد كما في سنبلة القمح أو كوز الذرة.
ولو تأملت نبات الذرة لوجدتَ له في أعلاه(شوشة) بها حبيبات دقيقة تحمل لقاح الذكورة، وفي منتصف العود يخرج الكوز، وبه شعيرات تصل كل شعرة منها إلى حبة من حبات الذرة المصطفة على الكوز، وهذه تحمل لقاح الأنوثة، فإذا هبَّتْ الريح هزَّتْ أعلى العود فتساقطت لقاحات الذكورة على هذه الشعيرات فلقحتها؛ لذلك نرى الحبة التي لا يخرج منها شعرة إلى خارج الغلاف تضمر وتموت؛ لأنها لم تأخذ حظها من اللقاح.
ومعنى: {بَهِيجٍ} [الحج: 5] من البهجة، فالمراد: الشيء حسن المنظر والجميل الذي يجذب الأنظار إليه، وبهجة النظر إلى النبات شائعة لا تقتصر على مَنْ يملكه بخلاف الأكل منه، فحين تمر ببستان أو حديقة تتمتع بمنظرها وجمال ألوانها وتُسَرُّ برائحتها.
وفي النفس الإنسانية ملكات تتغذى على هذه الخضرة، وعلى هذه الألوان وتنبسط لهذا الجمال، ولو لم تكُنْ تمتلكه.
لذلك الحق سبحانه وتعالى ينبهنا إلى هذه المسألة في قوله تعالى: {انظروا إلى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ..} [الأنعام: 99] أي: أن النظر مشاع للجميع، ثم بعد ذلك اتركوا الخصوصيات لأصحابها، تمتَّعوا بما خلق الله، ففي النفس ملكَات أخرى غير الطعام.
واقرأ أيضاً قوله تعالى في الخيل: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل: 6] فليست الخيل لحمل الأثقال وفقط، وإنما فيها جمال وأُبَّهة، تُرضِي شيئاً في نفوسكم، وتُشْبِع ملكَة من ملكاتها.
ثم يقول الحق سبحانه: {ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق..}